آراء

محمد لحظانه يكتب: نظرة في حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني

المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل، مكلف بالنقل الجوي

في لحظةٍ وطنيةٍ مشحونةٍ بالتحديات ومتعددة الأصوات، تبرز الحاجة إلى مقاربة تجربة حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بعيدًا عن ضجيج الاصطفاف، وعن خطاب المثالية الذي قد يحجب تطورًا متدرجًا يستحق الالتفات. فمنذ انتقال السلطة سلميًّا بين رئيسين منتخبين لأول مرة، بدا واضحًا أن الرجل اختار التهدئة وترميم الثقة وإشراك الجميع في صياغة المستقبل، مؤثرًا النَّفَس الطويل على الحسم السريع، ومراهنًا على أن الإصلاح الحقيقي يُبنى بتوافق واسع لا بقرارات فوقية.

وفي هذا الإطار، ساد في البلاد مناخ من الانفتاح والطمأنينة، خفّت فيه حدّة المواجهات السياسية، وتراجعت فيه لغة الشحن، وتم توسيع هوامش المشاركة. لكن هذا الجو، الذي يُفترض أن يكون ثمرة وعي سياسي ومسؤولية في استخدام أدوات الحكم، قد فُهم — عن قصد أو بدون قصد — من قبل البعض على أنه تراجع أو تراخٍ. والحقيقة أن القدرة على ضبط النفس، وتقديم التهدئة على التصعيد، ليست ضعفًا، بل شكلٌ ناضج من أشكال القوة، يُمارس بثقة، لا من موقع الحذر، بل من موقع الاستيعاب الهادئ لتعقيدات الواقع.

الأمن الداخلي استُبقي متماسكًا، وظلّت البلاد بمنأى عن الانزلاق إلى الفوضى، رغم ما تشهده منطقة الساحل من اضطرابات متصاعدة، ووجود مواجهات على بعض الجبهات الحدودية، وهو ما يُحسب لمستوى اليقظة الأمنية والنجاعة في التنسيق الإقليمي والدولي. كما شكّل تحسين حوكمة الهجرة، من خلال تعزيز الرقابة وتنظيم الحركة عبر الحدود، أحد المداخل المهمة لتعزيز الاستقرار الداخلي، وضمان مقاربة متوازنة تراعي الأبعاد الأمنية والإنسانية في آنٍ واحد.

فتحت السلطة الباب للنقاش السياسي الهادئ، من دون استثناء أو شروط، وصولًا إلى إعلان حوارٍ وطني يشارك فيه الجميع. وهي مبادرة نالت كثيرًا من الإشادة لأنها تكسر القوالب الضيقة وتمنح الأطياف السياسية والمجتمعية مجالًا للتعبير من موقع الشراكة لا الخصومة. وقد تزامن هذا المناخ مع إصلاح قانون الأحزاب، وهي خطوة مهمة في اتجاه ترسيخ الممارسة الديمقراطية على أسس أكثر واقعية. فبعيدًا عن المزايدات، كان الهدف هو فرز هيئات سياسية ذات تمثيل فعلي وبرامج واضحة، بدل استمرار مشهد حزبي يغلب عليه الطابع الشكلي. وهذا الإصلاح، بقدر ما قوّى مؤسسات النظام السياسي، فقد سدّ الباب كذلك أمام من ظلّ يشكك في دوافعه، إذ أثبت أن الهدف منه هو البناء لا الإقصاء.

على المستوى الاقتصادي، تكبّد العالم جائحةً وأزماتٍ متلاحقةً في الطاقة والغذاء، ومع ذلك حافظت الدولة على توازناتها وأطلقت برنامج التنمية الاستعجالي، وهو أكبر عملية تعبئة للموارد تعرفها موريتانيا منذ الاستقلال. هذا البرنامج اتسم بميزة لافتة: إشراك المواطن في تحديد الأولويات بحيث تلامس السياسات همومه المباشرة بدل أن تكون مجرد إملاءات من فوق، فخلق شعورًا متزايدًا بالانتماء إلى مشروع التنمية، لا بالارتهان له.

في مجال البنية التحتية، تحقّقت طفرة ملحوظة في شق الطرق، وتشييد المدارس، وتعزيز المرافق الصحية، مع احترام المعايير الدولية ذات الصلة. وقد شكّل ذلك نقلةً محسوسة في ربط المناطق، وتوسيع الولوج إلى التعليم والخدمات الصحية، بما يعبّر عن توجه استراتيجي يربط بين التنمية والعدالة المجالية. وفي السياق ذاته، تم إطلاق المرحلة الثانية من مشروع آفطوط الشرقي لتزويد بعض المناطق الداخلية بالمياه الصالحة للشرب، وهو مشروع استراتيجي يعكس التزام فخامة رئيس الجمهورية بتقريب الخدمات من جميع المواطنين، وتمكينهم من حقهم الطبيعي في الولوج الآمن والدائم إلى الموارد الأساسية.

كما لا يمكن في هذا السياق إغفال الأثر الإيجابي لتوسعة التأمين الصحي ليشمل مئات آلاف المواطنين، فضلًا عن البرامج النقدية المباشرة الموجَّهة للفئات الهشة، والتي باتت تمثّل أداة فعالة لتقليص الفقر وتعزيز الحماية الاجتماعية.

أما محاربة الفساد، فقد قطعت شوطًا معتبرًا: إجراءاتٌ صارمة، وتحريك ملفاتٍ بقيت سنوات بلا مسار، وآليات رقابةٍ ظلت تتعزز تباعًا. قد لا يكون ما تحقق كافيًا لإرضاء من يطمح إلى المعايير المثالية، لكنه مؤشر واضح على تحسن مستمر، ينذر بتحول في منطق إدارة الشأن العام، ويبعث رسالة جدية بأن الدولة لم تعد تتساهل مع ممارسات الماضي.

رغم أهمية ما تحقق من إنجازات، فإنه ما زال دون المستوى الذي يتطلع إليه فخامة الرئيس شخصيًا، وهو تطلع يعكس الطموح الكبير للإصلاح والتنمية. ولكن، من الضروري أيضًا التنويه بأن هذا المستوى لا يتناسب مع صورة الواقع التي يرسمها بعض المشككين، الذين قد يبالغون في نقد الأداء أو يختزلون جهودًا كبيرة في مظاهر القصور. هذا التفاوت في الرؤية يعكس أحيانًا فجوة في فهم حجم التحديات وتدرج النتائج.

ومن جانب آخر، يبقى تسويق هذه الإنجازات ونقلها بفعالية إلى المواطن خطوة لا تقل أهمية عن الإنجاز ذاته، وفي هذا المجال، لا تزال الجهود التي يبذلها الطيف السياسي الداعم، ومؤسسات الإعلام الرسمية وغير الرسمية، إلى جانب المثقفين وأصحاب الرأي الحر، دون المستوى المطلوب. إذ إن توصيل هذه المخرجات بشكل موضوعي، واضح، ومتواصل يُعد من عناصر بناء الثقة وتعزيز الشعور بالمشاركة الفعلية في مسار الإصلاح.

رغم هذه الإنجازات، أعرب الرئيس غير مرة عن امتعاضه من وتيرة التنفيذ ومستواها، وهو امتعاض يمكن فهمه بوصفه محركًا للتسريع لا مجرد تشكٍّ، إذ حرّك طواقم الحكومة إلى إيقاعٍ أسرع، وأرسى نوعًا من رقابة الأداء تقوم على النتائج لا الوعود. وقد توازى ذلك مع حرص متزايد على الشفافية في المعلومة، وفتح القنوات أمام الإعلام والمجتمع المدني لمساءلة السياسات العمومية.

في القطاعات الاجتماعية، أدت مضاعفة الإنفاق الصحي والتعليمي وتحسين وصول المياه والكهرباء إلى تحسنٍ محسوس، وإن كان تفاوت التجربة بين الوسط الحضري والريفي ما يزال يفرض مراجعة عقلانية للتوزيع والحوكمة. وفي ملف الهوية الوطنية، تغيّرت نبرة الدولة نحو لغة تضم التنوع بدل أن تضمره، ما ساعد على إذابة جزء من رواسب التهميش، وصناعة شعور جماعي أكثر تماسكًا.

خارجيًا، اكتسبت موريتانيا ثقة متزايدة لدى الشركاء، فعرفت مشاريعها مواكبة مثمرة من المؤسسات المالية الدولية، وهو ما يُعزى إلى التوازن في المواقف والحكمة في إدارة الملفات الإقليمية، بعيدًا عن سياسات المحاور المتصارعة. كما لا يمكن تجاهل الجهود الشخصية التي بذلها الرئيس لدعم منظمة استثمار نهر السنغال، خصوصًا خلال مشاركته في منتدى الصين – إفريقيا، حيث ساهم حضوره النشط ومساندته الواضحة في إقناع الجانب الصيني بتمويل مشاريع استراتيجية للمنظمة، ما يشكل نموذجًا ملموسًا لتوظيف الثقة الدولية في خدمة أولويات وطنية وإقليمية.

تجربة حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، إذن، ليست سباقًا إلى إنجازاتٍ خاطفة، بل مسارٌ يوازن بين الممكن والضروري، بين تطلعاتٍ عالية وإكراهاتٍ واقعية. هي محاولة لإرساء إصلاحٍ هادئٍ، تدرجيٍّ، يعوّل على بناء المؤسسات أكثر مما يراهن على الحضور الفردي، ويفضّل التوافق على الإقصاء، ويقيس التقدم بقدر ما يُنجز وما يُمنع من انتكاساتٍ في آنٍ معًا.

والحكم، في جوهره، أن تُمسك خيط المستقبل دون أن تقطع صلة الحاضر، وأن تحمي وحدة الدولة فيما تفتح الأبواب لجرأة التجديد. وبين من يطمح إلى المثالية ومن يغرق في جلد الذات، يظل السؤال الحاسم: هل تتقدم البلاد خطوة ملموسة في كل يوم؟

حين يكون الجواب «نعم»، ولو باضطرادٍ متدرّج، فإن مسار الإصلاح قد اختار طريقه بالفعل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى