
في ظل الحركية المتسارعة التي يعرفها الفضاء العام، تتزاحم القضايا المطروحة في المجالس والمنصات، وتتفاوت موضوعاتها بين ما هو طارئ أو عابر، وما هو مثير أو مستقطِب. ومن بين ما برز مؤخرًا من نقاشات، ما طاول أسرة أهل الشيخ آياه من حديث حول الثروة والخلافة الروحية، في مشهد لم يخلُ من نَفَسٍ تصعيدي، يفرض – لا بدافع الانحياز – بل بدافع المسؤولية، وقفة تأمل وتقدير لحساسية اللحظة ودقة رمزية من استُهدِفوا.
تزامنت هذه الحملة، في توقيتها ومناخها، مع تداول قضية الخلافة الروحية داخل الأسرة ذاتها، وهي مسألة حُسمت رسميًا بوضوح يضع لها إطارًا قانونيًا وشرعيًا. لكن استمرار بعض الأصوات في إثارتها خارج هذا السياق المؤسسي، أثار تساؤلات مشروعة عن دوافع هذا التوقيت، ومدى انسجامه مع المصلحة العامة، لا سيما حين يُطرح في أجواء يغلب عليها التلميح والتأويل بدل النقاش الجاد.
والمؤسف أن هذه الحملة، رغم ما تثيره من استغراب، ليست مستبعدة في زمنٍ أصبح فيه البذل الخالص عملة نادرة، وأصبح بعض الناس ينظرون إلى الخير بريبة، لا لأنهم يعرفون سوءًا، بل لأنهم فقدوا الثقة في وجود العطاء المجاني. بل لعل الأخطر أن يُصبح من الطبيعي – أو المتوقع – أن تُداس الرموز، وتُهان الأسر الكبيرة، كلما اختارت الصمت أو الارتقاء فوق الخصومات.
إن ما يدفع إلى كتابة هذه السطور، ليس الانتصار لطرف على حساب آخر، ولا منازعة في شأن شخصي أو أسري، وإنما الشعور بالحاجة إلى تذكير الرأي العام بضرورة التعامل مع الرموز التقليدية للمجتمع – بكل ما تمثله من توازن تاريخي وعمق اجتماعي – بوصفها رصيدًا جماعيًا يتعين الحفاظ عليه، لا لأنها معصومة من النقد، بل لأنها جزء من البنية القيمية التي شكّلت هوية هذا المجتمع، وأسهمت في لحمة نسيجه.
فالخلط بين المساءلة والاتهام، وبين النقد والتشكيك، لا يهدد المستهدَف المباشر فقط، بل يهدد مناخ الثقة العامة، ويفتح المجال لانزلاق رمزي قد يصعب احتواؤه لاحقًا. والأسوأ حين يُعاد تأويل البذل والتكافل الاجتماعي بما يزرع الريبة بدل الامتنان، ويحوّل المبادرة الخيّرة إلى مادة للتجريح والتأويل.
ويُسجّل، في هذا السياق، أن بعض مريدي الطريقة القادرية لم يكونوا – في هذه اللحظة – على مستوى ما يُنتظر منهم من رصّ للصفوف، وتعزيز للحكمة، ودعم للمسار الذي حمله رموز هذه الأسرة لعقود. وقد يكون الصمت في بعض الأحيان حكمة، لكن الإحجام التام عن قول كلمة الحق حين تُشوَّه الرموز لا يخلو من تقصير، يمكن – بل يجب – تداركه.
إن الأسرة التي تُثار حولها هذه الأقاويل لم تكن يومًا محل شبهة أو مساءلة اجتماعية أو رسمية، بل ظلّت – عبر عقود – نموذجًا للسخاء والتجرد والابتعاد عن مواقع النزاع أو شهوة الوجاهة. ومكانتها لم تُبْنَ على ثروة طارئة، بل على تراكم أخلاقي وروحي، أرسى قيم الزهد والكرم وخدمة الناس، دون أن تشتبك مع السلطة أو تدّعي امتيازًا.
وإذا كان من حق أي جهة أن تثير الأسئلة، فمن حق الرأي العام أيضًا أن يتساءل: ما الذي استجدّ حتى يُثار ما لم يكن يومًا محل إشكال؟ وما الغاية من تحويل مظاهر التكافل المجتمعي – التي كانت دومًا محل تقدير – إلى شبهات واتهامات؟ خصوصًا في ظل غياب أي مؤشرات رسمية على وجود تجاوزات تستوجب المساءلة أو المتابعة.
حتى ما طُرح في الآونة الأخيرة من دعاوى، رغم طابعها القضائي، لم يُدعّم حتى الآن ببيّنات كافية، ما يستوجب التعاطي معه برويّة، دون استباق للنتائج أو إقحام للقضاء في متاهات التأويلات الاجتماعية أو الحملات الظرفية.
ومن اللافت أن الأسرة المعنية قابلت هذا الجدل بالصمت والثبات، وواصلت نهجها المعروف دون دخول في المهاترات، وهو موقف يُقرأ لا كضعف، بل كحرص على السكينة العامة، وإصرار على أن يظل البذل فوق الشبهات.
ومن باب الحكمة والمصلحة، فإن الثبات على هذا الموقف المتزن، وتجنّب الانجرار إلى السجال، هو ما يعزّز صورة الرمز، ويُفقد الحملة زخمها، ويترك للرأي العام فرصة أن يفرّق بين الضجيج والحقيقة. فالمعاني العميقة لا تُشرح، وإنما تُجسّد، والوقار لا يُبرَّر، بل يُحترم بصمته.
وما ينبغي أن يُقلقنا كمجتمع، ليس مجرد الحملة على أسرة بعينها، بل المناخ الذي يجعل من الفعل الخيري مادة للظن، ومن الرمز المجتمعي هدفًا للتجريح. ففي مجتمع كالمجتمع الموريتاني، لم تكن الرموز تُقاس بثروتها، بل بأثرها، ولم يكن البذل يُساءل، بل يُحتذى.
لقد ظلّت أسرة أهل الشيخ آياه تمثل – في وجدان الناس – مرجعية أخلاقية وروحية، لم تكن في يوم من الأيام موضع اتهام، ولا مادة لتساؤلات مستفزة، وهو ما يجعل إعادة النظر فيها اليوم نوعًا من العبث بمخزون معنوي لا يخصّ الأسرة فحسب، بل المجتمع برمّته.
إن النقاش الجاد، في أي مجتمع يسعى إلى النهوض، يجب أن يُبنى على الوقائع لا على الأهواء، وعلى المسؤولية لا على الرغبة في التصعيد. وما نحتاجه اليوم، وسط هذا الضجيج، هو استعادة البوصلة الأخلاقية في قراءة الرموز، وعدم التفريط في منارات وازنة، أسهمت في توازن هذا المجتمع، وقامت بدورها دون اشتباك مع السلطة أو تنازع مع الدولة.
وهكذا نفهم الإنصاف…
لا كدفاع عن الأسماء، بل كوعي جماعي بحساسية الرمز، وحرص على أن يبقى الخطاب العام متزنًا، عادلًا، متجردًا من الأهواء.
وهكذا نفهم الوفاء…
لا كامتياز يُمنح، بل كموقف أخلاقي يُلزمنا بعدم القفز على تضحياتٍ طويلة فقط لأن ظرفًا طارئًا أطلق رياح التأويل.
وفي الختام، فإن هذه اللحظة، رغم ما تحمله من ضجيج، يجب أن تكون فرصة لمراجعة خطابنا العمومي، وتجديد التزامنا بالعدل والاتزان.
فالرموز ليست ملكًا لأحد، ولكن التفريط فيها خسارة للجميع…
والبذل، حين يقلّ، يصبح مستفزًا… والرموز، حين تُهان، يخسر الجميع مرآتهم.
وهكذا تبقى القيم، حين يتراجع الصخب، ويعلو صوت البصيرة.
حين يتحوّل البذل إلى تهمة: دعوة إلى إنصاف الرموز وحماية التوازن المجتمعي
بين الخصومة والتوازن: حين يصبح الرمز ضحية التأويل
بقلم / محمد لحظانه