آراءالرئيسية

محمد لحظانه يكتب: رخصة السياقة مسؤولية لا مجاملة

حين يصبح الإصلاح ضرورة

في كل قرار يُتخذ لمسألة تمس حياة المواطن اليومية، تُختبر جدية الدولة ومسؤوليتها أمام شعبها. قرار إلغاء نتائج امتحان رخصة السياقة الأخير ليس مجرد إجراء إداري عابر، بل خطوة جريئة تعكس حرص وزارة التجهيز والنقل على حماية الأرواح وصيانة نزاهة المرفق العام. أمام هذا القرار، تتبدى الحقيقة: لا مجال للمجاملة حين تكون السلامة على المحك، ولا بديل عن الإصلاح عندما يصبح الوطن في حاجة ماسة إليه.

ليس من السهل أن تُتخذ قرارات تُعيد النظر في مسارات إدارية مألوفة، خاصة حين تمس قطاعات لها صلة مباشرة بالحياة اليومية للمواطنين. لكن الأصعب – والأكثر نبلاً – هو أن تُتخذ تلك القرارات بدافع المسؤولية لا المزايدة، وبروح الإصلاح لا حسابات الإرضاء. ومن هذا المنطلق، جاء قرار إلغاء نتائج امتحان رخصة السياقة الأخير، لا كخطوة عابرة، بل كترجمة عملية لحرص وزارة التجهيز والنقل، التي تقع على عاتقها مسؤولية حماية الأرواح وصيانة الثقة في مختلف مصالح القطاع، على القيام بواجبها بأعلى درجات الالتزام والمسؤولية.

وقد أثار القرار نقاشًا واسعًا وتفسيرات متباينة، ما يستدعي تسليط الضوء على سياقه الحقيقي. ففي خضم هذا التفاعل، ظهرت تأويلات متعددة، وتبنّى البعض موجبات القرار من منطلقات مختلفة، بعضها مهني، وبعضها الآخر مدفوع باعتبارات خاصة لا صلة لها بجوهر الإصلاح. ومن يناهض هذا القرار، سواء بقصد أو بغير قصد، فهو بذلك يعارض المسار الإصلاحي الذي تقوده الدولة بقيادة فخامة رئيس الجمهورية، وهو ما يستدعي منا جميعًا التريث في الأحكام وتحري الدقة، حفاظًا على الثقة بين المواطن والإدارة، وعلى نقاء النقاش العام من التشويش والانفعال.

لفهم القرار بشكل أدق، لا بد من ربطه بالمسار الإصلاحي العام الذي تقوده الدولة بقيادة فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، مسار يقوم على الشفافية، ويرتكز على تكريس المرفق العمومي لخدمة المواطن بكفاءة ومسؤولية. وقرار الإلغاء في هذا السياق لم يكن معزولًا، بل يجسّد حلقة جديدة من إصلاح منظومة رخص السياقة، وهي منظومة لم تحظَ في مراحل كثيرة بالإشراف والرقابة الكافية، مما فتح المجال لاختلالات ساهمت – بشكل غير مباشر – في وقوع حوادث سير مؤلمة. ومعالجة هذه الاختلالات لم تعد خيارًا، بل مسؤولية وطنية وأخلاقية لا تقبل التأجيل، لأن من يمنح رخصة سياقة لا يجيز قيادة سيارة فحسب، بل يسلم صاحبها مسؤولية تتعلق بحياة الناس، وهي أمانة لا تحتمل التساهل أو المجاملة.

جاء القرار إذن ضمن إصلاح شامل تتبناه الوزارة، يهدف إلى رفع مستوى التأهيل والتقييم، ومراجعة المعايير المعتمدة، وتطوير البنية التحتية، بما يضمن أن تكون رخصة السياقة ثمرة استحقاق، لا نتيجة عبث أو تساهل. وكل الخطوات التي اتخذتها الوزارة من أجل تعزيز العدالة والشفافية في منح رخصة السياقة، لا يمكن أن تكون محفزًا للقبول بنتائج امتحان لا تعكس هذه المبادئ. ولم يكن القرار ارتجاليًا أو ناتجًا عن ردّ فعل عابر، بل بُني على تقارير ميدانية موثوقة كشفت عن اختلالات تؤثر على عدالة الامتحان وشفافيته، وتتناقض مع المعايير المهنية. ومن يظن أن القطاع سيتردد في اتخاذ مثل هذه القرارات الحاسمة، فهو مخطئ. فهذا القطاع لا يُدار بمنطق التردد، بل بروح المسؤولية التامة تجاه حياة المواطنين، مع الاستعداد الدائم لاتخاذ ما يلزم، مهما كانت كلفته، حين تتطلب المصلحة العامة ذلك.

ومن اجتاز الامتحان بمستوى يؤهله للقيادة، لا بد أن يكون واثقًا من أن الإجراءات القادمة تأتي في سياق تحسين المنظومة وضمان جديتها، وليس في إطار التشكيك في كفاءته. فالاستحقاق الحقيقي لا يزول بقرار يعيد تقييم الأداء، بل يُكرّس عبر ممارسات شفافة وعادلة تعزز الثقة في المرفق العام وتُرسّخ مبدأ المصداقية.

ولذلك، لا ينبغي فهم القرار كعقوبة جماعية، وإنما كخطوة ضرورية لإعادة ضبط منظومة تحتاج إلى صرامة وعدالة واحترافية. فوزارة التجهيز والنقل لا تهدف إلى معاقبة أحد، بل تتحرك من منطلق واجبها في بناء منظومة نقل أكثر أمانًا، مهنية، واستجابة لتطلعات المواطن. فالإصلاح لا يُطلب بالشعارات، بل يُنجز بالقرارات الجريئة التي تُعلي المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

ومن الطبيعي أن تثير مثل هذه القرارات ردود فعل متباينة، بعضها رفض أو تشكيك في الخلفيات، بل وفي بعض الحالات، شخصنة غير مبررة. غير أن هذه الأصوات – على اختلافها – لا ينبغي أن تثنينا عن المضي قدمًا عندما تفرض المسؤولية القرار، آن الأوان أن ننعى بأنفسنا عن الانخراط في التوجه الخاطئ، ونتبنى موقفًا مسؤولًا يدعم مسار الإصلاح الوطني. فمعنى القيادة لا يكمن في إرضاء الجميع، بل في الجرأة على اتخاذ القرار عندما يكون التراخي تفريطًا في الأمانة. كما أن الصمت الذي يختاره البعض في لحظات تستدعي الوضوح والانحياز الصريح للمصلحة العامة، يضعف النقاش، ويُشعر القائمين على الإصلاح بالخذلان، رغم أن الفرصة ما تزال قائمة لتدارك هذا الغياب والانضمام إلى صف الدعم الصريح لمسار وطني لا يُراد منه سوى حماية الناس وبناء دولة أكثر كفاءة وعدالة
وهكذا نفهم أن رخصة السياقة ليست مجرد وثيقة إدارية، بل مسؤولية قانونية وأخلاقية، ومؤشر على مدى جدية الدولة في حماية الأرواح والممتلكات.

وهكذا نفهم أن الإصلاح ليس خيارًا تكميليًا، بل ضرورة تقتضي اتخاذ قرارات جريئة تُعبّر عن أولويات حقيقية، في ظل قيادة جعلت من الشفافية والمصداقية مبدأ لا يُساوَم عليه.
فحين يصدر القرار دفاعًا عن الحق العام، فهو لا يُمثّل فقط موقف وزارة، بل يعكس يقظة الدولة واستقامتها، واستعدادها لأن تضع سلامة المواطن فوق كل الاعتبارات، دون مجاملة، ودون تردد.
وهكذا نفهم القيادة…
أن تكون في موقع القرار لا يعني أن تسعى لإرضاء الجميع، بل أن تملك الشجاعة الكافية لاتخاذ ما يجب، حين يكون الصمت تقصيرًا، والتأجيل تفريطًا، والمجاملة خطرًا لا يُغتفر.
وأن تتحمل المسؤولية في وجه الاعتراض، لا بدافع الاستعراض، بل بروح من يرى في الإصلاح التزامًا لا مخرج منه، وواجبًا لا يُؤجَّل.

لقد كان قرار إلغاء نتائج الامتحان مثالًا صريحًا على هذا النمط من القيادة: حازم في المبدأ، هادئ في الأسلوب، منفتح على المراجعة المسؤولة لا على التراخي.
وهذا تحديدًا ما يجعلنا نثق في أن الإصلاح، حين يُبنى على الوضوح والصدق، لا يتأثر بالصخب، بل يمضي في طريقه، لأنه نابع من إرادة لا تخشى الحقيقة، ومن مشروع دولة تضع سلامة الناس وكرامتهم في أعلى السُلّم.
وهكذا نفهم الإصلاح…
أنه ليس لحظة قرار فقط، بل روح استمرارية، تتجدد كلما اقتضى الواجب مواجهة الإشكالات من جذورها، لا تجميل مظاهرها.
وأن قيمته لا تُقاس بما يرافقه من ترحيب أو اعتراض، بل بمدى ما يُحدثه من تصويب للمسار، وإعادة ترتيب لأولويات المرفق العام، على أساس من العدالة والكفاءة.
إنه زمن الدولة الجادة. زمن لا مكان فيه للتساهل في أمن الناس، ولا للسكوت عن التلاعب بمعايير الجدارة والاستحقاق.
وزمن كهذا، لا يُكتب له النجاح إلا حين تتضافر فيه إرادة القرار مع وعي المواطن، في معركة بناء تتطلب الصبر، لكنها تستحق كل التضحيات.

 

محمد ولد لحظانه/ المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل مكلف بالنقل الجوي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى