
المتابع:قبل انعقاد مؤتمر حزب الإنصاف، طُرحت دعوة صريحة للتعامل مع المؤتمر بوصفه لحظةَ مراجعة حقيقية، لا مجرد محطة تنظيمية عابرة، بل فرصة لإعادة تعريف وظيفة الحزب بما يجعله قادرًا على مواكبة نهجٍ إصلاحي يتقدّم بهدوء وتراكم. بدت الفكرة في ظاهرها بسيطة، لكنها كانت عميقة الدلالة الوظيفة قبل الشكل، والدور قبل الترتيب، حتى لا يسبق الخطاب أدواته، ولا يظل الإيقاع التنظيمي أبطأ من الإيقاع السياسي. ومن هذه الزاوية تحديدًا، تشكّلت النقطة المحورية التي ينبغي أن يمرّ عبرها أي تحليل لمسار المؤتمر ومخرجاته.
هذه الدعوة لم تكن منفصلة عن السياق العام، بل انطلقت من إدراكٍ مفاده أن نهج فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، القائم على التهدئة وبناء الثقة وتراكم الإصلاح، لا يمكن أن يجد امتداده الطبيعي داخل حزب يكتفي بالتماسك الشكلي، وإنما يحتاج إلى تنظيم يمتلك شجاعة المراجعة والاستعداد لتحمّل كلفة التغيير حين يحين أوانه. غير أن مسار المؤتمر، منذ بداياته، بدا أقرب إلى منطق الاستمرارية منه إلى أفق التحوّل، وهو ما جعل الدعوة للمراجعة تتحوّل عمليًا إلى اختبار حقيقي لقدرة الحزب على التقاط حساسية الظرفية الوطنية والسياسية والتفاعل معها.
وعندما صدرت المخرجات، تعزّز هذا الانطباع؛ إذ بدا أن منطق الحفاظ على القائم قد تغلّب على استحقاق المراجعة. لم يكن التحوّل حاضرًا بما يكفي، ولا بدا التجديد واضحًا على نحو يسمح بالقول إن الحزب أعاد مساءلة أدواته أو حدّث إيقاعه، رغم أن المرحلة كانت أحوج ما تكون إلى قرارات تعكس وعيًا سياسيًا بمخاطر الجمود، وتبعث رسائل طمأنة إلى الداخل والخارج معًا. وهنا يبرز التلازم الضروري بين رؤية إصلاحية مستقرة من جهة، وأداء تنظيمي قادر على التكيّف والترجمة العملية من جهة أخرى.
ومن هذه النقطة تحديدًا، تفرض قراءة أعمق لما جرى نفسها؛ إذ يتضح أن الجسد الحزبي اختار تدوير دمه القديم بدل فتح مسارات فعلية أمام دماء جديدة، في وقت بدأت فيه علامات الإرهاق التنظيمي تطفو بهدوء. هذا الخيار لا يوسّع الفجوة فحسب بين مسار إصلاحي يتراكم بصبر وأداة تنظيمية تُدار بالحد الأدنى من التكيّف، بل يطرح أيضًا سؤال المناعة المستقبلية للحزب. فالمخرجات التي حافظت على صورة التماسك الخارجي، لا توفّر بالضرورة قدرة حقيقية على الصمود إذا ما فُطم الحزب نفسه عن “رضاعة النظام”، واستمر في الاعتماد على التكيّف الشكلي بدل بناء استقلالية تنظيمية فعّالة. ويتضاعف هذا الإشكال حين لا تُستثمر لحظات إعادة التشكيل في ترسيخ معايير واضحة للنزاهة الرمزية، من أبسطها تحييد من ثَبُتت إدانتهم سابقًا في قضايا فساد عن مواقع التمثيل والمسؤولية، احترامًا للذاكرة الجمعوية وصونًا لرصيد الثقة العامة.
وفي المحصلة، فإن الأجسام التي تُقاوم التجدد قد تبدو ثابتة لبعض الوقت، لكنها في الواقع تراكم هشاشة صامتة لا تظهر إلا عند أول اختبار حقيقي للقدرة على الفعل والصمود؛ لا بسبب غياب النية، بل نتيجة غياب الجاهزية والمرونة التنظيمية. وهكذا، يلتئم خيط التحليل كله عند حقيقة واحدة أن الرهان على التحوّل لا يُبنى بالشعارات، بل يتطلّب تنظيمًا واعيًا، مرنًا، وقادرًا على تجاوز الشكل إلى الجوهر وهكذا فقط يُفهَم التحوّل، لا كخطاب، بل كجاهزية دائمة.
محمد لحظانه




