المتابع: كتب مفتي القاعدة السابق محفوظ ولد الوالد المعروف بلقب أبوحفص، معلقا على حادثة فرار أربعة سجناء وقتلهم لاحقا في مواجهة مع الأمن الموريتاني، توضيحا وتبيينا من الناحية الشرعية ومن وجهة نظره كعضو ومفتي سابق للقاعدة التي تعتبر من أبرز الجماعات المسلحة خلال العقود الماضية، قبل أن تتفرع عنها عدة جماعات لكل منها اسما خاصا ومنهجا خاصا.
وهذا نص ما كتب الشيخ محفوظ ولد الوالد:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
وبعد:
فقد تابع معظمنا حادثة هروب السجناء الأربعة من السجن المركزي بنواكشوط، مساء الأحد الخامس من مارس الحالي، وتداعياتها المثيرة، وآثارها الخطيرة، وما أثارت من خوف، وخلفت من ضحايا، نسأل الله تعالى أن يتغمدهم بالرحمة والمغفرة.
ومع أني كنت خارج العاصمة، وخارج التغطية الشبكية، فقد حرصت على متابعة الحدث من لحظاته الأولى، والعمل على إصدار بيان مع جماعة من أفاضل وكبارالعلماء والدعاة، والأئمة والقضاة في البلاد حول الحادثة.
وقد تضمن ذلك البيان:
1- البراءةَ من كل فكر غالٍ، وإنكارَ كل سلوك منحرف، يهدد الأمن، وينتهك الحرمات، وخاصة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
2- التعزية في الحرسيَّين اللذَين قتلا مساء الأحد، تغمدهما الله برحمته.
3- وجوب قصر مسؤولية الحادث على من قام به، والتحذير من التعميم، وتحميل المسؤولية عنه للإسلام، أو حمَلتِه، والعاملين له من أهل الصدق والاستقامة.
4- الدعوة إلى إقامة الدين، وتحكيم الشرع، وتحقيق العدل، والقضاء على أسباب الغلو، باعتبار كل ذلك أمورا مطلوبة لذَاتِها شرعا، ومطلوبة لغيرها سدا للذريعة ومنعا.
5- دعوة من يتبنون هذا الفكر، ويقومون بمثل هذه الأعمال إلى التوبة إلى الله عز وجل.
والآن، وبعد نهاية العملية النهايةَ المعلومة عندنا جميعا..
وبعد الاطلاع على كثير مما قيل عن الحادثة، وكُتب حولها تحليلا، أوتعليلا، من قبيل التفسير، أو التبرير، أعيد، وأزيد في هذا الكلمة:
أولا: عن حادثة الفرار
حول هذه الحادثة أرى ما يلى:
1- أن الفرار من السجن أمر عادي جدا، ويحصل في جميع سجون العالم.. عادي أن يسعى سجين محكوم عليه بالإعدام ، أو ينتظر الحكم به، إلى الهروب من السجن.
وعادي أن يجد فرصة لذلك في ظل الاسترخاء الأمني في السجن، الذي له أسبابه الحالية المعروفة.
الشيء المستبشع والمنكر في عملية الفرار، هو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
2- أن الحادثة كانت حادثة معزولة، وليست جزءا من مخطط أوسع، يستهدف أمن البلاد.
وأظن أن ما تحدثت عنه بعض الأوساط من وجود ( مخطط، وعناصر دعم، وخلايا…) كانت مهمته محصورة في تسهيل عملية الهروب فقط.
3- كان تعاطي السلطة مع الحدث جيدا من بعض النواحي على الأقل.
ومنها على سبيل المثال أنها :
– أدركت بعد الليلة الأولى أن الحادث حادث منفرد، فلم توسع دائرة الاشتباه، ونطاق التوقيف أكثر من اللازم.
– لم تقم بردة فعل سلبية تجاه الساحة الإسلامية العامة التي استنكرت الحادث في الجملة.
– حرصت الدولة، وعلى لسان الناطق باسم الحكومة على تبرئة السلفيين الحقيقيين من الحادث، وحصر المسؤولية عنه فيمن قاموا به.
وقد أحسنت بذلك.
4- من السابق لأوانه معرفة تداعيات الحادث على وضعية (المتاركة) القائمة على الجبهة الشرقية .
مع أن الطرفين يدركان تماما أن مصلحتهما في استمرارها، والمحافظة عليها.
5- كان مستوى الاستنكار الشعبي العام، والإسلامي الخاص للحادث رسالة رفض صارخة ضد هذا الفكر، وهذا السلوك.
ثانيا: عن الغلو
إن الغلو، والتطرف ليس لهما دين خاص، ولا مذهب معين، بل هما في كل المِلل، وجميع النِّحَل.. الدينية، والوضعية.
واسوأ أنواع الغلو والتطرف الغلو العلماني في مواجهة الإسلام، والتطرف الليبرالي في الموقف من الدين.
ومحاولة ربط الغلو والتطرف بالإسلام دينًا، ومنهجِ السلف الصالح فكرًا، والجهادِ شعيرة، هي جزءٌ من حرب أعداء الإسلام وخصومِه، وسعيِهم لتشويه حقائقه، والإساءة إلى عصره الذهبي.. عصر السلف الصالح.
الإسلام هو دين الله القائل في محكم كتابه: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾.
ودينُ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- القائلِ فيما صح عنه:
(ومَن لعنَ مؤمنّا فهو كقتلِه، ومَن قذفَ مؤمنًا بكفرٍ فهو كقتلِه) رواه البخاري.
والسلفية الصحيحة هي المحَجَّة البيضاءُ التي كان عليها السلف الصالح، وهم صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعون، وأتباعُهم، وأهل القرون المُزَكَّاة، بمن فيهم أصحاب المذاهب السنية المتبوعة، وأيمةُ الحديث، وأعلامُ السُّنة.
وأيمةُ وأتباعُ السلف هم خير قرون هذه الأمة، ومنهجُهم هو كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. منهجهم في العقيدة، والشريعة، والسلوك، وجميع مجالات الحياة.
وكانت دولة المرابطين في هذه البلاد على هذا المنهج.
وهو منهج المصلحين، والمجددين من علماء الشريعة، وحملة هذا الدين في هذه البلاد.
وكان من أعلام هذا المنهج المتأخرين والمعاصرين العلامة الشيخ سيديّ بابَ بن الشيخ سيديَّ، ومن بعده العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (الشيخ آبَّ بن اخطور)، والإمام بداه بن البوصيري، والعلامة الشيخ محمد سالم بن عدود، رحمة الله عليهم، وغيرهم كثير من علماء هذه البلاد وأعلامِها.
فمن خالف نهجَ السلف الصالح وهديَهم، فليس منهم، ولا تجوز نسبتُه لهم، ولو ادعى ذلك.
وليس من العدل مع من تختلف معهم ممن تصفهم بالسلفيين، ولا من المهنية في نقل الأخبار، ولا من الصدق في الوصف، ولا من الموضوعية في التحليل، الزج باسم السلف والسلفية في عمل منكرٍ من سلفِهم الغابر، ومرفوضٍ من خلَفِهم الحاضر!
ثالثا: الواجب في مثل هذه الأحداث
في مثل هذه الأحداث يجب ان تُتخذ المواقف، وتصدر الآراء انطلاقا من الشرع السديد، والعقل الرشيد، بعيدا عن العواطف الهوجاء، التي تحرك الدهماء، وتسوقهم إلى الفتن العمياء.
ويجب توخي الحذر، وتحري الدقة في المصطلحات، والأوصاف، والألفاظ، والأحكام.
نحن أمة لنا مصطلحاتنا الخاصة المستقلة، وأوصافنا الشرعية المنضبطة، وتَكيِيفاتُنا الفقهية الدقيقة، التي يترتب عليها ما يترتب من أحكام، وجزاءات.
وديننا يلزمنا بألا نَحكُم لمن نحب، أو على من نكره، إلا بعلم، وعدل.
يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل﴾.
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين﴾.
ويقول جل من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
وتأسيسا على ذلك، وعملا به.
وبناء على معرفتي الخاصة بأبعاد، وأسباب ظاهرة الغلو، وحجج، وشبهات المتأثرين بها، وهي معرفة معززة بمشاركات عديدة في حوارات كثيرة مع هؤلاء، خارج البلاد، وداخلها، أقول:
١- إن ظاهرة الغلو بصورة عامة ظاهرة خطيرة، وذات أبعاد كثيرة، ولها أسبابها ومظاهرها، ووسائل علاجها ومواجهتها.
وقد كتبت في ذلك بحثا منشورا منذ عدة سنوات، عنوانه (الغلو في التكفير.. حقيقته، وأسبابه، ومظاهره، وعلاجه)
وبينت رؤيتي في ذلك من خلال العديد من المحاضرات والندوات، والملتقيات والمقابلات حول الموضوع.
وهذه الظاهرة ظاهرة وافدة إلى هذه البلاد من بلاد إسلامية أخرى سبق إليها تعطيل الشريعة الإسلامية رسميا، وعمليا ، وحُكمت فيها القوانين الوضعية، وتمت المجاهرة فيها بمعاداة الدين، ومحاربة المتدينين، وموالاة أعداء الإسلام والمسلمين، فكان من ردود الفعل على هذه الفتنة، فتنة مقابلة تمثلت فيما تبنته بعض الجماعات الإسلامية من افكار الغلو، وانتهجته من التغيير بالقوة.
وهو أمر ظهر خطؤه، وبان خطله، وإن كان كثير من أصحابه صادقين ، ويظنون أنهم من المحسنين.
وفي مرحلة لاحقة، تم تعميم التجربة من قبل من تأثروا بهذا الفكر، فنقلوها إلى بلاد إسلامية أخرى، تختلف ظروفها، وأوضاعها، وبالتالي أحكامها، والواجب فيها.
وواجب الأمة اليوم – وفي مقدمتها العلماء – مضاعفة الجهود من أجل علاج هذه الظاهرة، قضاءً على أسبابها بإقامة الدين، وتحكيم الشرع، وتحقيق العدل.
ومحاصرةً لمظاهرها، بنشر العلم النافع، والعمل الصالح، والتربية السليمة.
ومحاورةً مع أصحابها بالحجة والبرهان، والجدال بالتي هي أحسن.
٢- بخصوص السجناء على خلفية هذه الظاهرة في موريتانيا أؤكد ما يلي:
• أن الغالبية الساحقة من هؤلاء السجناء صححوا أخطاءهم، وراجعوا أفكارهم، وتابوا من أعمالهم السابقة.
وقد أعلنوا ذلك خلال الحوار الذي تم معهم خلال شهر رمضان الماضي 1443.
وكنت مشاركا في ذلك الحوار مع نخبة من علماء البلاد الأجلاء، عهد إليهم السيد رئيس الجمهورية بمهمة محاورة الشباب، ومناقشتهم.
ولم يرفض الحوار إلا بضعة أفراد، بينهم ثلاثة من الذين فروا في هذه العملية، والرابع كان رافضا للحوار بداية، وانضم إليه في الأخير.
وكان الحوار ناجحا، ومثمرا، وقد رفعت نتائجه إلى السيد رئيس الجمهورية، مع مطالبة بالعفو عن كل من لم يعد يشكل خطرا فكريا، أو أمنيا، مع توصيات بوجوب استكمال تحكيم الشريعة، وإقامة الدين، وتحقيق العدل في جميع مجالات الحياة في البلاد.
وقد وعد السيد الرئيس مشكورا بتلبية تلك الطلبات، والعمل على تحقيق تلك التوصيات.
وبالفعل، فقد خرج بعض أولئك الشباب من السجن، ولم يصدر منهم أي إخلال بما التزموا به، أو رجوع لما تابوا منه.
وما زلنا ننتظر الوفاء ببقية تلك الوعود، والتعهدات.
• أن الحكم الشرعي في حق من تاب من هؤلاء، ورجع إلى رشده، وعاد إلى صوابه، وتخلى عن حمل السلاح، هو وجوب إطلاق سراحه، وإتاحة الفرصة له للعودة إلى حياته، ومجتمعه، والعمل لدينه بالوسائل الشرعية.
ولا يمنع من ذلك ما إذا كان قد قام بأعمال سابقة تاب منها، وتخلى عن الفكر الذي دفعه إليها.
وهنا فرق شرعي بين قتال الذين خرجوا على السلطة بالسلاح متأولين، وقتال المحاربين الذين يحملون السلاح لقطع الطرق، وقتل الناس، وأخذ أموالهم.
فمن تاب من المتأولين في قتال السلطة لا يؤاخذ بما فعل في تأويله ، ومن تاب من أهل الحرابة، لا تسقط عنه الحدود بتوبته.
وهذا معروف عند أهل العلم..
وقد غاب هذا التفريق الجوهري من قانون مكافحة الإرهاب الموريتاني، وذلك من شؤم استيراد القوانين الأجنبية.
• من لم يتب من بغيه، وتمادى في غيه، فهو -مع عظيم إثمه، وشناعة جرمه- مسلم له من الحقوق ما لأمثاله من المسلمين، وعليه ما عليهم.
له حقوقه في حياته، وبعد مماته.
ومن حقوقه في حياته، حفظ كرامته، و نصحه، وإرشاده، وتوفير محاكمة شرعية عادلة له.
ومن حقوقه بعد موته وجوب تغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، والترحم عليه.
ولا يجوز التمثيل به، ولا انتهاك حرمته.
ومن سلب هؤلاء صفة الإسلام، أوحقوقه ، فقد وقع فيما نقم عليهم.
إن الخوارج (وهم أشد غلوا من أكثر هؤلاء) الذين قتلوا الصحابة، وكفروهم، وخرجوا على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لم يكفرهم الصحابة، بل عاملوهم معاملة المسلمين.
وأكثرُ الفقهاء يرَون أنهم بغاة، خرجوا متأولين..
وذكر ابن عبد البر -رحمه الله- أن عليا -رضي الله عنه- سئل عنهم: أكفارٌ هُم؟ قال: من الكفر فَرُّوا.
قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.
قيل فمَا هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة، فعَمُوا وصَمُّوا، وبغَوا علينا، وقاتَلوا فقاتلناهم.
وقال لهم: لكم علينا ثلاث: لا نمنعُكم مساجدَ الله أن تَذكروا فيها اسمَ الله، ولا نَبدؤُكُم بقتال، ولا نَمنَعُكم الفيءَ ما دامت أيديكم معنا.
هذا ما أردت بيانه، وقصدت إعلانه.
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
اللهم احفظ بلادنا، وسائر البلاد، من زيغ أهل الزيغ، وفساد أهل الفساد، وأنعم علينا بنعم الأمن والإيمان، والحياة تحت راية القرآن، وفي ظل شريعة الرحمن.. أحينا على ذلك، وأمتنا عليه.